تأثير الثقافة المعاصرة على المجتمع العربي
أعتدنا في مجتمعاتنا العربية على المجاملات، والتي أخذت تدريجيًا تمتد إلى أهم وأدق تفاصيل حياتنا فأفسدتها، وأتخذت صورًا كثيرة، ولعل من ضمن هذه الصور هي إطلاق الصفات والألقاب بشكلٍ عام دون تمييز أو تفكير في عواقب هذا السلوك والتي نحصد ثمارها الآن وسيمتد ذلك إلى المستقبل.
يبدو واضحًا في حياتنا اليومية أن الكثير يبحث عن الظهور والشهرة حتى وإن لم يكن لدية موهبة أو حتى شيء جدير بالإهتمام، ويتخذ ذلك منحىً أشد سوء على صفحات مواقع التواصل الإجتماعي، والتي أصبح لها نماذجها المعروفة والتي لا تقدم سوى السطحية والإبتذال تحت مسميات مختلفة وواهية، ويظل كل ذلك مفهوماً وأن كان غير مقبول من ناحية الذوق والفكر والمنطق.
لكن ما يجعل هذه الظاهرة كارثية هي استسهال الكثيرين لإطلاق الألقاب على أنفسهم أو غيرهم وهم لا يملكون أدنى المقومات التي تخولهم فعل ذلك، وأصبح الكثير من الناس يسمي نفسه أو غيره بالفنان أو النجم أو العالمي أو المثقف، فهل نستوعب في مجتمعاتنا العربية أهمية الثقافة والفنون والآداب ومعناها وتأثيرها؟ وهل ندرك ضرورتها؟ وهل نحن قادرون على الإختيار والفرز والتمييز بين الحقيقي والمزيف، وبين الأصيل والدخيل، وبين الموهوب وبين الباحث عن الشهرة؟.
أعتقد أن كل من يقرأ هذه السطور بدأ بالإجابة ولو مبدئيا على هذه الأسئلة ويعرف في قرارة نفسه ماهي الإجابة، فالبعض يعتقد مثلاً أن تذوق الفن أو الأدب وهو شيءٌ جميل يجعل من صاحبها فنانًا أو أديبًا وهذا غير صحيح ويدخل تحت مسمى خلط الأوراق والأشياء ببعضها، كما أننا لا نستطيع إنكار نظرة قطاع واسع في مجتمعاتنا العربية لمعنى الثقافة والفنون.
يعتقد البعض أن الفنان (وأقصد هنا الفنان والمبدع الحقيقي) لا يقوم بأي مجهود يذكر، ويمتلك أيضًا علاوةً على ذلك الشهرة والمال، ويخلطون بين فئات معينة نراها بإستمرار على صفحات مواقع التواصل الإجتماعي وبعض القنوات، وبين أصحاب الموهبة والذوق والفكر، ويعتبرون أن كتابة مقال أو نص أو رسم لوحة أو التقاط صورة فوتوغرافية بمهارة وذكاء وغيرها من الآداب والفنون هي أمور سهلة وعادية، بينما لا يعرفون أن هناك في كل المفاهيم وليس بمفهوم واحد هناك تصنيفات وتدرجات وتقدير خاص لكل فئة.
فهناك مبدعون وخلاقون لديهم موهبة خارج التقييم لفرادتها وهي نادرة ولا يستطيع أحد إنكارها ويشار إليها بالبنان، وهناك مواهب مميزة وناضجة تدرس اختياراتها ولديها معايير عالية وانتقائية في ماتقدمه، وهناك مواهب جيدة تحاول تثقيف نفسها وتطوير أدواتها وتجتهد في ذلك مما قد يدفعها إلى الأفضل والاكثر تميزاً، وهناك مواهب عادية تملك حضورًا لطيفًا لكنها لا تترك بصمة ً ولا يسبب غيابها أي فراغ كما لا يحدث حضورها أي فرق.
ويأتي بعد ذلك فئات أنصاف المواهب التي قد تقدم عملاً جيداً بالمصادفة ولكن يصعب عليها تكراره، وهناك الدخلاء الذين يريدون ذكر اسمهم بأي طريقة ممكنة حتى وإن كان سلباً لتكون محط أنظار الناس وحديثها (كما تعتقد).
وبين هذه الفئات فروقات هائلة، لكن الأغلبية تضعهم في بوتقة واحدة، عدا عن الفهم السطحي للكثيرين لمفهوم الثقافة والأدب، فالبعض يعتقد أن قراءته وحفظه لإقتباسات أسماء أدبية معينة وترديدها بسبب أو بدون سبب سيرفعه إلى خانة المثقفين، والتي يمارسها في أوقات الفراغ بغية تحقيق نوع من الوجاهة والتمايز الإجتماعي عن محيطه فقط للفت الأنظار، لكنها ليست أولويةً لديه أو للكثيرين لأن مفهومه للثقافة محدود بشهادة علمية أو منصب يحققه أو لقب يحصل عليه، مع أن أهم البصمات والأسماء في عالم الثقافة لم تحظى بتعليم جيد ولم تكن متفوقة، لكن موهبتها أصبحت تدرس للآخرين، لأن الموهبة الأصيلة كالشمس لا تحجب، وتغير لأجلها المفاهيم الجامدة وتحدث تغييراً فيها لأنها استثناء كسر القاعدة وأصبحت قاعدةً جديدة، فلا أحد منا يسأل ماهي مؤهلات شكسبير أو فيكتور هوجو أو غابرييل جارسيا ماركيز أو فيرجينيا وولف أو أمل دنقل أو حنا مينة أو نازك الملائكة وغيرهم الكثير لأن كلاً منهم كان نموذجاً حقيقياً وصادقاً والعديد منهم ينحدر من بيئة عاشت فقراً مدقعاً لكنها فهمت الثقافة وفهمت وطنها وأهله وحاولت تقديم الأفضل لهم عبر إبداعها.
الثقافة ليست ضرباً من ضروب الرفاهية، بل هي حاجة ملحة لتطوير الشعوب والإرتقاء بالذوق وتنمية الإحساس بالغير وبكل ما حولها ومن حولها،الثقافة تنمي بذرة الضمير وتقوي المشاعر الإنسانية وتدفعنا لمراجعة حساباتنا والإنتباه لتصرفاتنا، واحترام أنفسنا واحترام الآخرين واحترام الأطفال الذين يكبرون أمامنا وسيكونون هم من يساعدوننا لاحقاً، الثقافة تجعلنا ننتقي كلماتنا ونحدد موقفنا من الكثير من الأشياء لأنها تخلق بداخلنا فكرة نبيلة تصبح بوصلة ترشدنا عندما نحتار.
الثقافة ليست محصورة في فئة معينة، بل هي متاحة للجميع بمعزل عن إمكاناتهم المادية وعلى كل فئات المجتمع أن تفهم أنها قادرة على تقريبهم إنسانياً وعاطفياً من بعضهم، وأنها تتسع لكل محب ولا تستثني أحداً.
لذلك نلمس في وقتنا الحاضر أهمية الثقافة والوعي، لأن سبب كل ما نعانيه هو قلة الوعي، وعلينا أن نفهم جوهرها ومضمونها لا قشورها، لأن الثقافة سلوك وليس شعارات، وهي أولوية وضرورة ملحة اليوم في مجتمعاتنا العربية أكثر من أي وقت مضى.
بقلم| خالد جهاد الملخ