بصمة الحضارة المصرية في العالم.. قصة القديس موريس والقديسة فيرينا
لم ينقطع العطاء الحضاري لمصر تجاه العالم مع آخر ملوك ما قبل ميلاد المسيح، وهذا الملك هو كليوباترا السابعة التي دقت أول مسمار في نعش الإمبراطورية الرومانية فخلصت الإنسانية من سيطرتها ووحشيتها في معاملة البشر.
عندما دخلت المسيحية مصر على يد مرقص الإنجيلي، ظهرت بشكل أوضح مواهب الشعب المصري في التضحية من أجل المبدأ والجهاد لنشر النظافة وهي عماد الحفاظ على الصحة كما أثبتت هذه الأيام التي نعيشها في الظل الكئيب لجائحة كوفيد-19 ،ولنبدأ القصة من أولها.
القديس موريس
دعاني صديقي الألماني “بيتر” إلى مسكنه لمقابلة قس كاثوليكي لنتباحث معه في موضوع تاريخي، كلمته عنه وهو الآثار الطيبة التي تركها مصريان في أوروبا يلقبان الآن بلقب قديس وهما القديس “موريس” والقديسة “فيرينا .
“قال القس :”القول بأن القديس موريس شخصية حقيقية وقصة استشهاده حدث تاريخي وليس أسطورة قول صحيح لأنه مُثبت تاريخيًا ووجدته في كتاب القديسين.
ولكن قصة فيرينا التي علّمت سكان الكهوف النظافة فهي غير موجودة في كتاب القديسين لذلك هي -على ما أعتقد -أسطورة تبادلها الناس عبر العصور ولا أساس لها من الصحة مثل الكثير من الأساطير المتداولة .
افترقنا بعد هذا اللقاء العابر إلى أن ساقتني الصدفة لإثبات أن فيرينا المصرية كان لها أثرا عظيما في قلوب الشعب في سويسرا حتى أنها لقبت بالقديسة والدلائل التي أعرضها هنا والتي تُنشر لأول مرة تثبت ذلك.
القديسة فيرينا
كان من ممارسات الرومان، إمعانا في استعباد الشعوب التي احتلوا أراضيها، تجنيد شبابها ليحارب في صفوف جيوش الرومان تحقيقا لأطماعهم الاستعمارية.
فحدث في القرن الثالث الميلادي، وكانت المسيحية في ذلك الوقت قد انتشرت في كل أنحاء مصر بينما بقي الرومان على وثنيتهم، أن جندوا فيلقا من صعيد مصر سموه فيلق طيبة نسبة إلى العاصمة السابقة قبل أن تنتقل العاصمة إلى الاسكندرية.
ونصّبوا شابا قويا فاره الطول ومتوقد الذهن، عينيه تبرق بالذكاء الذي يشهد بإيمانه، اسمه موريس قائدًا لهذا الفليق، وعند حاجتهم إلى تعزيز فرقهم المتورطة في معارك ضد المدافعين عن أرضهم في جبال الألب، وهؤلاء كانوا في نظرهم ثوار يستحقون الإبادة، لم يتردداو في استدعاء فيلق طيبة وارساله إلى موقع العمليات الحربية بين الجبال الشاهقة وفي البرد القارس.
ولكن جند مصر -وهم خير أجناد الأرض –تحملوا الغربة والتضاريس الغريبة عنهم وكذلك البرد القارس، أما ما لم يتحملوه فهو أمر القائد الروماني لهم بتقديم القرابين لآلهة الرومان قبيل بدء التلاحم مع الثوار وذلك لأن جند مصر كلهم كانوا مسيحيين يؤمنون بالله الواحد الأحد، فرفضوا تقديم القرابين لأوثان الرومان.
اعتبر القائد الروماني هذا الرفض عصيانا فأمر حاشيته بتنفيذ عقوبة عصيان الأوامر وهي العشرية أي وضعهم في صف واحد وإعدام كل عاشر جندي ليكونوا عبرة لغيرهم.
وبعد تنفيذ العشرية الأولى أعاد القائد الروماني أمره بتقديم القرابين، ولكن جنود مصر المؤمنون ثبتوا على إيمانهم وعلى رفضهم تقديم القرابين، فأمر بالعشرية الثانية، وتبعتها الثالثة والرابعة.
إلى أن استشهدوا جميعا في سبيل الله وهم ثابتون على إيمانهم “وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ” آل عمران (169).
حدثت هذه المذبحة الوحشية في سويسرا (الفرنسية) وتكريما لتضحية هذا الفيلق سُميت المدينة التي نشأت هناك باسم الشهيد قائد الفيلق “موريس” (Saint-Maurice (VS واتخذوا من الصليب القبطي ذو الأضلاع المتساوية الطول وكل منها ينتهي بثلاث دوائر ترمز مجتمعة إلى تلاميذ المسيح الإثنى عشر شعارا لمنطقتهم.
قصة فيلق طيبة لم تنتهي عند استشهاد كل أفراده، بل هنا تبدأ قصة “فيرينا “الفتاة المرافقة للجنود لرعايتهم طبيا وتضميد جروحهم التي قد تصيبهم أثناء المعارك وكانت مخطوبة لأحد جنود الفيلق اسمه فيكتور، وهي القصة التي ينكرها القس الكاثوليكي لأنها ليست موثقة في كتاب القديسين حسب قوله.
وجدت فيرينا نفسها وحيدة وسط الجبال الوعرة بعد استشهاد جميع أفراد الفيلق ومنهم خطيبها فيكتور، فذهبت للاختباء في أحد الكهوف ولقيت هناك عددا من سكان المنطقة يعيشون في هذه الوحشة.
استضافها هؤلاء السكان وعرضوا عليها البقاء معهم إلى أن يرحل عنهم ما بقي من جند الرومان، قبلت الفتاة ضيافة سكان المنطقة شاكرة كرمهم ولكن على مضض لأنها تقززت مما رأته منهم، إذ كانت أيديهم دائما قذرة ولا يغسلونها حتى عند اقبالهم على الطعام.
وكان شعرهم الأشعث ممتلئًا بالحشرات، أما هي القادمة من متجتمع متحضر يعتني بملبسه وهيئته وخاصة بالنظافة التي كان لها مركزا خاصا في تعاملاتها بصفتها مسؤولة عن الخدمات الطبية، فأثار ما رأته منهم شفقتها عليهم وأخذت على نفسها عهدًا بأن تبدّل حالهم إلى الأفضل.
لجأت إلى حقيبة أدواتها وأخرجت منها مشطا وبدأت بالأطفال لأنهم أسرع في التعلم فأخذت تمشّط شعرهم لإقصاء الحشرات منه ثم استدارت وأخذت إبريق الماء وغسلت بالماء شعر الأطفال وسعدت بابتسامتهم عندما لاحظوا نهاية الهرش المستمر لفروة رأسهم.
ذاع صيت فيرينا الفتاة المصرية التي علمتهم النظافة فأحبوها لدرجة أنهم أطلقوا عليها لقب القديسة فصارت تُنادى في كل مكان بالقديسة فيرينا.
عند زيارتي لمدية بازل السويسرية عام 20111 قابلت أحد علماء الآثار وتحدثت معه عن قصة فيرينا وأنا تحت تأثير أن هذه القصة ليست إلا أسطورة، ففوجئت بقوله: إن قبرها في مدينة تسور تساخ zurzach، على بعد خمسين كيلو مترا من بازل على نهر الراين.
في هذه اللحظة انفعلت حتى كدت أسمع تسارع دقات قلبي فقلت له: إذ صح أنها مدفونة في هذه المدينة فلا بد أنها شخصية حقيقية عاشت وتوفيت، وإلا ما معنى عمل قبر لشخصية أسطورية.
في هذه اللحظة قررت سرعة الذهاب إلى تسورتساخ رغم تأخر الوقت، وعند وصولي هناك وجدت ضالتي فورا دون سؤال المرة حيث الكنيسة الصغيرة تتوسط المدينة.
كان باب الكنيسة مفتوحا والكنيسة خالية تماما، فتقدمت إلى أن وجدت على الجانب الأيمن سورا يحمي مكانا منخفضا به قبر فيرينا، وغطاء القبر الحجري منقوش صورتها تحمل تحمل في يدها اليسرى مشطا مزدوجا (نسميه في مصر فلّاية).
وفي يدها اليمنى تحمل إبريق الماء، وفوق القبر يعلو تمثال لها يصورها تحمل في يديها المشط والإبريق، وتبين أن يوم أول سبتمبر من كل عام هو يوم تكريمها.
وكانت هذه بداية نشر المسيحية في أوروبا على يد المصريين، شُهداء ومعلّمي النظافة، وتبعهم مصريون كثيرون نشروا المسيحية في أوروبا بعضهم يرقدون في قبورهم في أماكن كثيرة من أوروبا.
بقلم-الدكتور مهندس هانئ محمود النقراشي