ربع قرن من حكم الملك محمد السادس.. الوجه الآخر للمغرب
حين غادر الملك الراحل الحسن الثاني عالمنا، يوم 23 يوليوز 1999، كان يعلم أن ابنه الأمير محمد، الذي سيخلفه على عرش المملكة المغربية، سيُواجه العديد من التحديات السياسية الاقتصادية والاجتماعية، لذلك حاول أن يمهد له بعض السبل سَلَفاً، من خلال مُصالحة تاريخية مع المعارضة، ليتمكن من تدبير التركة الثقيلة بعيدا عن الصراع العنيف حول السلطة التي امتدت لأكثر من 4 عقود.
ربع قرن من حكم الملك محمد السادس
اليوم، يُكمل الملك محمد السادس 25 عاما على كرسي العرش المغربي، وهي فترة تغيرت فيها صورة البلاد على العديد من الأصعدة، حيث وضع العاهل الجديد نصب عينيه، منذ توليه العرش، مهمة تدارك التأخر الحاصل في البنى التحتية وركَّزَ على الاستفادة من الموقع الجغرافي الاستراتيجي للمغرب.
إلى جانب ذلك العمل على تقوية العمل الدبلوماسي لبلاده وهو الذي ورث أيضا ملف الصحراء المُعقد، وإرساء معالم حياة سياسية ومسار دستوري أكثر توازنا.
لكنه أيضا واجه تعقيدات كبيرة في بعض الملفات، خصوصا ما يرتبط بتحقيق العدالة المجالية وضمان خدمات اجتماعية مُلائمة لكل المواطنين.
البنيات التحتية.. تدارك ما فات
لم يكن طموح الملك محمد السادس خافيا، بشأن البنية التحتية في المغرب التي يرغب في جعلها منصة للإقلاع الاقتصادي والتنمية الاجتماعية.
لذلك، وفي خطابه في الذكرى الثالثة لاعتلائه العرش سنة 2002، أعلن عن الشروع في دراسة وإنجاز “مُركب ضخم مينائي وتجاري وصناعي على مضيق جبل طارق، شرقَ مدينة طنجة”، كان الأمر يتعلق بميناء “طنجة المتوسطي”، الذي سيُصبح أهم منصة اقتصادية في المملكة وأصبح الآن رابع أكثر موانئ العالم كفاءة، والأول في إفريقيا والمنطقة الأورومتوسطية، وفق البنك الدولي.
والمؤكد أن الملك محمد السادس، وخلال ربع قرن من الزمن، نجح في تدارك الكثير من النقائص على مستوى البنيات التحتية، فبلاده أصبحت الأولى في إفريقيا التي تتوفر على قطار فائق السرعة، يربط أهم 4 مراكز اقتصادية، هي طنجة والقنيطرة والرباط والدار البيضاء.
بالإضافة إلى ذلك توجد مشاريع مستقبلية لتوسيع شبكته إلى مدن كبرى أخرى، تشمل مراكش وأكادير وفاس، كما يتوفر المغرب على 1800 كيلومتر من الطرق السيارة مع وجود خطة حكومية لرفع هذا الرقم إلى 3000 كيلومتر بحلول سنة 2030.
ويمكن اعتبار تجويد البنى التحتية، إحدى أهم الرهانات التي كسبها المغرب في عهد محمد السادس، فالمملكة أصبحت تتوفر على ثاني أفضل بنية تحتية على المستوى القاري بعد جنوب إفريقيا، بما يشمل شبكة السكك الحديدية والطرق والمطارات والموانئ، والخامسة على مستوى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بعد 4 من دول الخليج العربي، وهي الإمارات وقطر والبحرين والسعودية، وفق تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي الخاص بمؤشر التنافسية الصادر سنة 2023.
الدبلوماسية.. مسار جديد يحكمه ملف الصحراء
الملك محمد السادس، وعكس والده الرحل، ليس مُغرما كثيرا بالزيارات الرسمية لدول العالم أو بالمشاركة في القمم الدولية، لكنه بالتأكيد الشخص الذي يقود المسار الدبلوماسي لبلاده، على اعتبار أن الشؤون الخارجية تُصنف في خانة “المجالات السيادية”، ولأنها أيضا ترتبط بأكثر الملفات حساسية وتعقيدا بالنسبة للمغرب، ويتعلق الأمر بملف الصحراء.
وخلال عقدين ونصف العقد من حكم الملك محمد السادس، بدأت ترتسم ملامح عمل دبلوماسي مغربي يستند إلى ركائز واضحة، أولها، النِّدية التي أصبحت الرباط تتعامل بها مع العديد من بلدان العالم بما في ذلك الدول الكبرى، إلى جانب البراغماتية، أو الشراكة في إطار “رابح – رابح”، كما تصفها وزارة الخارجة المغربية، ثم عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول.
لكن قبل كل ذلك، تبقى الركيزة الأولى والأساسية هي تلك المرتبطة بملف الصحراء، الذي قدم المغرب بشأنه للأمم المتحدة، سنة 2007، خطة الحكم الذاتي، كأقصى شيء يمكن تقديمه لطي الملف.
لذلك فإن “الوحدة الترابية للمملكة” ظلت دائما بالنسبة لدبلوماسيتها “خطا أحمر”، في ظل صراع متزايد على السيادة الإقليمية مع الجزائر، البلد الغني بموارد الطاقة الذي يدعم جبهة “البوليساريو” الانفصالية منذ ما يقارب نصف قرن.
هذا التوجه عبَّر عنه العاهل المغربي بشكل صريح في خطابه في ذكرى ثورة الملك والشعب سنة 2022 قائلا: “إن ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح والبسيط، الذي يقيس به صدق الصداقات، ونجاعة الشراكات”.
وتابع مخاطبا المنتظم الدولي “ننتظر من بعض الدول، من شركاء المغرب التقليديين والجدد، التي تتبنى مواقف غير واضحة، بخصوص مغربية الصحراء، أن توضح مواقفها، وتراجع مضمونها بشكل لا يقبل التأويل”.
هذه المرتكزات تفسر لماذا دخل المغرب في صراعات سياسية واقتصادية مع ألمانيا وإسبانيا وفرنسا، انتهت بإعلان هذه الأخيرة، بصيغ مختلفة أو متقاربة، دعم خطة الحكم الذاتي في الصحراء تحت السيادة المغربية.
وكيف نجحت الرباط في نيل اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بسيادتها على المنطقة ضمن اتفاق ثلاثي تضمن إعادة العلاقات الدبلوماسية المقطوعة لمدة 20 عاما مع إسرائيل، وكيف تداركت المملكة عقودا من الدعم الإفريقي للطرح الانفصالي، حتى أصبحت 20 دولة إفريقية الآن تتوفر على قنصليات في مدينتي العيون والداخلة، أكبر حواضر الصحراء جنوب المغرب.
مرحلة سياسية جديدة
لم يستلم الملك محمد السادس من سلفه الملك الحسن الثاني، وضعًا هو الأسوأ على الإطلاق، لأن العاهل الذي حكم المملكة لمدة 38 سنة كان قد اجتاز بالفعل المراحل الأكثر تعقيدا، والتي كادت أن تطيح بحكمه وتودي بحياته في انقلابي 1971 و1972.
وكان أيضا قد أنهى معركة كسر العظام مع اليسار والمعارضة عموما قبل وفاته بقليل، بفكرة حكومة التناوب التي سيترأسها زعيم الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، عبد الرحمن اليوسفي.
ومع ذلك، كان الملك الشاب يعي أنه لا يمكن بدء “العهد الجديد” دون إقرار الدولة بمسؤوليتها عن خطايا الماضي ومحاولة تصفية تركة حقوقية ثقيلة.
لذلك وقَّعَ ظهيرا بإنشاء هيئة الإنصاف والمصالحة سنة 2004، والتي وثقت شهادات ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وأقرت تعويضات لهم، على الرغم من أن الأمر لم يتطور لمُحاكمة المتورطين في أعمال التصفية الجسدية والإخفاء القصري والتعذيب الممنهج، جنائيا.
التجارب البرلمانية والحكومية في عهد الملك محمد السادس، ستكون أكثر مرونة، فإذا كان قد واجه انتقادات من اليسار لعدم اختياره اليوسفي لقيادة الحكومة مجددا بعد انتخابات 2002 التشريعية، الأولى في عهده، والتي تصدرها الاشتراكيون، مُفضلا التكنوقراطي إدريس جطو، فإنه سيتَّبِع هذا النهج في 2007، ثم في 2011 سيتحول إلى قاعدة دستورية، ستُفضي لأول مرة، ولمرتين متتاليتين، إلى قيادة حزب العدالة والتنمية الإسلامي للحكومة.
دستور المغرب 2011
دستور المغرب 2011، جاء في سياق إقليمي خطير، متسم بثورات أدت إلى سقوط عدة أنظمة في العالم العربي، لكن ملك المغرب نجح في اجتياز هذه المرحلة من خلال الإقرار مُبكرا بحاجة البلاد إلى تغيير دستوري ومؤسساتي.
أفرز تصدر الإسلاميين للمشهد في انتخابات 2011 و2016 التشريعة، أدخلت القصر في مرحلة تعايش مع الإسلاميين امتدت لـ10 سنوات.
وأبعدت المملكة عن السيناريو المصري، كما أدت في نهاية المطاف، إلى عودة حزب التجمع الوطني للأحرار، الذي يقوده رجل الأعمال عزيز أخنوش، إلى قيادة الحكومة بعد تصدر انتخابات 2021.
طفرة صناعية وتحديات اجتماعية
فترة حكم الملك محمد السادس، ركزت كثيرا على المشاريع الاقتصادية الكبرى، خصوصا إحداث الإقلاع الصناعي، ففي عهده انتقلت صناعة السيارات إلى مستوى آخر لم يكن مُتوقعا بالنسبة لبلد إفريقي من جنوب المتوسط.
إذ بفضل مجموعة من المصانع، وخصوصا مصنع “رونو طنجة” الذي أنتج لوحده سنة 2023 ما يناهز 288 ألف سيارة، أصبح المغرب أحد أبرز موردي السيارات إلى السوق الأوروبية.
وتحول المغرب خلال الربع قرن الماضي، إحدى المنصات الأهم في العالم لإنتاج وتصدير الأسمدة، ما يفسر رقم المعاملات الذي حققته مجموعة المكتب الشريف للفوسفاط، الفاعل الرئيس في هذه الصناعة، والذي تجاوز 9 مليارات دولار سنة 2023.
أما صناعة الطائرات فانتقلت صادرات الرباط منها من 2.8 مليار دولار سنة 2021 إلى ما يقارب 3.8 مليار دولار سنة 2023، وأعلنت الرباط رسميا أن طموحها هو إنتاج طائرة كاملة مغربية الصنع قبل متم 2030.
ومع ذلك، فإن المملكة لا زالت تعيش تحديات كثيرة، أغلبها اجتماعي، فرغم الاستثمارات الكبيرة في العديد من المشاريع التابعة للقطاعين العام والخاص إلا أن الحكومات المتعاقبة لا زالت عاجزة عن إيجاد حلول جذرية لمشكلة البطالة.
إذ حسب أرقام المندوبية السامية للتخطيط الصادرة في ماي من سنة 2024، فإن تعداد العاطلين عن العمل في المغرب يتجاوز 1,64 مليون شخص، الأمر المرتبط بتوالي سنوات الجفاف، الوضع الذي يقودنا إلى أزمة المياه التي لا زال العاهل المغربي يقود جهود التغلب عليها بإنشاء السدود ومحطات تحلية المياه.
ولا زال المغرب يعاني أيضا من التفاوتات الاجتماعية ومن تنمية اقتصادية غير عادلة، بين المدن الكبرى والصغرى، أو بين البوادي والقرى، أو بين مختلف الجهات، وهو ما اتضح مثلا خلال زلزال 2023.
إذ في الوقت الذي تحول فيه وجه مدينة مراكش أو أكادير بشكل إيجابي في السنوات الماضية، اتضح أن القرى القريبة منها في أقاليم الحوز وشيشاوة وتارودانت لا تزال تعاني من العزلة والفقر.
وفي تقرير أصدرته للمندوبية السامية للتخطيط، قبل أقل من سنة، اتضح أن 3 جهات فقط من أصل 12، هي الدار البيضاء – سطات، والرباط – سلا – القنيطرة، وطنجة – تطوان – الحسيمة، تساهم في خلق الناتج الداخلي الإجمالي الوطني بأكثر من 58 في المائة.
مشاكل المغرب مُرتبطة أيضا بالحماية الاجتماعية وأوضاع الشغيلة في المجالين العام والخاص، فالبلاد التي لا زالت تعاني من تدني مستوى التعليم العمومي شهدت إضرابا طويلا في بداية الموسم الدراسي المُنقضي خاضه رجال ونساء التعليم للمطالبة برفع الأجور وتحسين أوضاع العمل، وهي الاحتجاجات التي انتقلت بعد ذلك إلى القطاع الصحي قبل أن يلحق بالركب موظفو المحاكم والجماعات المحلية.
والمؤكد أن الملك يعي أن الأمور لم تكن تسير على أفضل وجه في المجال الاجتماعي، لذلك أنشأ لجنة “النموذج التنموي الجديد” أواخر سنة 2019، التي تمثلت مهمتها أساسا في جرد مكامن الخلل وطرح بدائل تنموية لتداركها، أمر ساهمت جائحة “كوفيد 19” في إزاحة الستار عنه بشكل أكبر.
وحاليا يشرف الملك بشكل شخصي على ورش تعميم الحماية الاجتماعية بما يشمل التغطية الصحية، في الوقت الذي تسعد فيه المملكة لجيل جديد من الأوراش التنمية قبل احتضانها كأس العالم 2030 بشراكة مع جارتيها الأوروبيتين إسبانيا والبرتغال.
تقرير: دعاء عبد الرحمن