جوانب حضارية في تراثنا العربي
يزخرُ تراثنا العربيُّ بضروبٍ شتّى من المعارفِ الّتي تجلو كثيرًا من غَوامض العلم وأوّليَّة السَّبقِ فيه، وقد قيّد أجدادنا أمورًا حضاريّةً يزهو بها عصرنا الحاضر، ويتباهى الغربُ بها على أنّهم السّبّاقون إليها، وفيما يأتي بعض هذه الجوانب تُثبت بما لا يدعُ مجالًا للشّكّ أنّ العربُ هم مَن اخترعوها وسَبقوا إليها, فكانتْ مفخرةً من مَفاخرهم:
تنظيم دور العملاء أو الزبائن
ورد في الحيوان للجاحظ أنّ أهلَ الـمِربد كانوا يقولون: لا نرى الإنصافَ إلّا في حانوت فَرَجٍ الحجّام؛ لأنّه لا يلتفتُ إلى مَنْ أعطاه الكثير دون مَن أعطاه القليل, ويُقدّم الأوّلَ ثمّ الثّاني فالثّالثَ حتّى يأتيَ على آخرهم.
وهذا ما يُسمّى في حياتنا المعاصرة تنظيمَ الدّور الّذي للأسف صرنا نتأفّفُ منه, ويلهثُ بعضنا يجاوز الدّور في سبيل الحصول على ما يريدُ, ولو على حساب مَن هو أحقّ منه.
ترجيل الشعر وتصفيفه
كان لعبد الملك بن مروان مُرجِّلةٌ، تتعهّد شعره وتُرجِّلُه. وقولنا: شَعرٌ مُرجّلٌ: بين السّبوطة والجُعودة, ويُسمّي الفيروزآبادي هذه الـمُرجّلة حُسينة. وحُسينة علمٌ نادرٌ من أعلام النّساء.
الجُمة (الباروكة)
روى أبو الفرج أنّ ابنَ سُريجٍ هو أوّلُ من ضرب بالعود في الغناء العربيّ في مكّة, وكان قد رآه مع العَجم الّذين قَدم بهم ابنُ الزّبير لبناء الكعبة بعد احتراقها، وقد أُعجِب النّاسُ بغنائهم، فقال ابنُ سريج: أنا أضربُ به على غنائه، فضَرَب به/ فكان أحذقَ النّاس.
وذكر أبو الفرج أنّ ابنَ سُريج كان آدَمَ أحمرَ ظاهرَ الدَّم سِناطًا (لا لحيةَ له)، وأنّه بلغ خمسًا وثمانين سنةً، فصَلِعَ، فكان يلبس جُمّةً مُركّبةً. فلُبس الشّعر الـمُستعار الّذي يُوارى فيه الصّلع مظهرٌ قديمٌ في الحضارة العربيّة في القرن الأوّل الهجريّ.
الجراحة التجميلية
في ترجمة المقداد بن الأسود الكنديّ أنّه كان عظيمَ البطن, وكانَ له غلامٌ روميٌّ, فقال له: أشقُّ بطنك, فأُخرجُ شيئًا من شحمه حتّى تَلْطُفَ (تصير رشيقًا)، فشقّ بطنه، ثمّ خاطه، فمات المقداد، وهرب الغلام.
وروى الجاحظُ أنّ كلبًا عرضَ لصبيٍّ من أولاد القصّابين، فعضّ وجههُ، فنقعَ الصّبيُّ ثنيّته، وخَرقَ اللّحمَ الّذي دونَ العظم إلى شطر خدّه،….ثمّ خيّط ذلك الموضع، ورأيته بعد شهرٍ وقد عاد إلى الكتّاب وليس في وجهه إلّا موضع الخيط الّذي قد خِيط.
الإحصاء المدني
ذكر الجاحظُ أنّ آلَ أبي طالب أُحصوا منذ أعوامٍ وحُصِّلوا، فكانوا قريبًا من ألفين وثلاثمئة، ثمّ لا يزيدُ عددُ نسائهم على رجالهم إلّا دون العُشر، وهذا عَجَبٌ، وقد تهيّأ في آل أبي طالب من الإذكار ما لم يُعْرف في قديم الدّهر وحديثه، ولا فيما قَرب من البلدان ولا فيما بَعُد؛ يُريد الجاحظ أن يقول إنّ الطّالبيين فيهم فضيلة الذّكور، أي نساؤهم لا يَلدْنَ إلّا الذّكور.
ترويض الحيوان وتعليمه
كان الأسودُ الكذّاب العَنسيّ يُلقّب ذا الحمار، فقد كان له حمارٌ راضَهُ وعلَّمه، فكان يقول له: اسجُدْ، فيسجد، ويقول له: اجثُ، فيجثو، وغير ذلك من أمور كان يدَّعيها، ومخاريق كان يأتي بها، يجتذب بها قلوبَ مُتَّبعيه.
التبان (المايوه)
تُبَّان على مثال رُمّان: سِروالٌ قصيرٌ مقداره شِبرٌ، يستر العورة، يكون للملَّاحين/ وهو ما يُسمّى في عصرنا (المايوه).
ذكر ابن تغري بَرْدي أنّ السّلطان المظفّرَ بن النّاصر قلاوون كان إذا لَعِبَ مع الأوباش (أخلاطٌ متفرّقون) يتعرّى ويلبس تُبّانَ جِلد، ويُصارع معهم، ويلعب بالرّمح والكرة.
الإعفاء من خدمة العلم
ذكر ياقوتٌ في كلامه على صِقلّية أنّ الغالبَ على أهل المدينة المعلّمون، فكان في (بَلَرْم) ثلاثُمئة معلِّمٍ/ فسألتُ عن ذلك، فقالوا: إنَّ الـمُعلّمَ لا يُكلَّفُ الخروجَ إلى الجهاد عند صدمةِ العدوّ.
الدكتور: خليل عبد العال
رئيس قسم اللغة العربية – كلية الاداب – جامعة درعا