مقالات وآراء

بصمة الحضارة المصرية في العالم “5”

وصلت رسالة من حُرّاس الحدود الغربية لمصر إلى الملك رمسيس الثالث – وهو ليس ابن رمسيس الثاني باني معبد أبو سمبل – بأن شعوب البحر والشمال يستعدون بجيش جرار وأسطول يحمل آلاف الجنود لغزو مصر.

وكان رمسيس متوقعا هذا الغزو، لذلك بنى أسطولا وجهز جيشا من خيرة أجناد الأرض، ولكن عندما وصله خبر قرب موعد الغزو أراد أن يعرف تفصيلات خطط الغزاة لمواجهتهم، فأرسل فريقا مدربا على التخفي ومعه مترجمون يفهمون لغات هؤلاء القوم لأنهم كانوا ينتمون لعشائر مختلفة سماهم المصريون شعوب البحر والشمال وهذا هو الاسم الرسمي لهم إلى الآن.

وصلت الرسائل تباعا من الفريق الذي أرسله لالتقاط الأخبار – اليوم نطلق عليهم اسم “المخابرات العسكرية” – وكانت أخبارا مقلقة، فعدد وعدة جندهم تزيد بمراحل عن عدد جيشه وسيوفهم مستقيمة ولها مقبض يجعل طعنة منه نافذة وقاتلة وهم بجانب الدرع الذي يحملوه في الذراع اليسرى يلبسون غطاء على الرأس يحميهم من الضربات والنبال التي تأتي من أعلى.

فكانت هذه المعلومات خير عون له ليرسم مع قادة جيشه مخططا ينطوي على حيلة لاستدراجهم حيث يكون لجيشه وضعا يميزه على أعدائه.

المعركة البحرية
لوحة المعركة البحرية وتظهر في يسار الصورة جندي مصري يخرج أحد جنود الغزاة من الماء ليأسره

 

لوحة المعركة البحرية على جدار معبد رمسيس الثالث المعروف باسم مدينة هابو
لوحة المعركة البحرية على جدار معبد رمسيس الثالث المعروف باسم مدينة هابو

استدرج رمسيس الثالث الغزاة من شعوب البحر والشمال ليدخلوا بسفنهم في فرع النيل من البحر الأبيض المتوسط واستعد لهم بأسطوله الذي كان مرابطا في جنوب المصب قبل تفريع النيل وجيشه الذي كان ينتظرهم على ضفتي النيل.

فانهالت على الغزاة السهام من الجهتين وهم محصورون بين ضفتي النيل والذين حاولوا الإفلات بسفنهم إلى الجنوب مستغلين الرياح الشمالية الغربية وجدوا أمامهم الأسطول المصري الذي أجبرهم على التراجع عن أرض الكنانة.

وعندما تراجعت بعض السفن التي كانت في المقدمة تقابلت مع باقي سفنهم الآتية من الشمال فحصل عندهم الهرج والمرج وتعالت الصيحات بين من ينادي باستمرار التقدم إلى الجنوب ومن ينادي “دعونا ننقذ ما يمكن إنقاذه بالتراجع إلى البحر” وعزز الرأي الأخير أن تيار النيل كان يدفع السفن إلى الشمال فكانت السفن التي فقدت شراعها في المعركة غير قادرة على التقدم إلى الجنوب بل كانت تحت رحمة التيار الذي يدفعها دفعا حثيثا إلى الشمال، بينما طاقم السفن محتار بين التجديف ضد التيار والدفاع عن أنفسهم بعد أن تمكن أفراد من الجيش المصري من السباحة إلى السفن وتسلقها ثم الاشتباك مع أطقمها.

وبفضل هذا التخطيط تكبد الغزاة خسائر فادحة في الرجال والعتاد فلم يجدوا ملاذا إلا التراجع والخروج من النيل إلى البحر الأبيض المتوسط حيث دفعت الرياح الشمالية الغربية من تبقى منهم إلى السواحل الشرقية للبحر الأبيض المتوسط.

كانت الأرض الواقعة بين نهر الأردن وساحل البحر الأبيض المتوسط إلى ذلك الحين تسمى “كنعان”، فنزل الغزاة من شعوب البحر والشمال إلى هذه الأرض واستقروا أولا في خمس مدن هي أشدود وعسقلان وغزة وعقرون وجات (جات تسمى الآن تل الصافي) لأن أرضها كانت خصبة وفيها ما يكفي للزراعة من الماء، ومن وقتها وإلى الآن سميت هذه الأرض فلسطين على اسم أكبر قبيلة من الغزاة وكان اسمهم فلستيون Philistines، ثم بسطوا سيطرتهم على كل المساحة بين نهر الأردن وساحل البحر الأبيض المتوسط معتمدين على تفوقهم عسكريا.

قبل هذه الأحداث بمئات السنين خرج بنو إسرائيل من مصر وبعد أن مكثوا فترة طويلة في سيناء ثم فترة أطول في جبال شرق الأردن ينظرون عن بعد إلى ما سموه أرض الميعاد وينتظرون فرصة تسنح لهم بدخول هذه الأرض.

عندما سنحت هذه الفرصة عبروا نهر الأردن واحتلوا مدينة الخليل ثم توسعوا في السيطرة على المساحة بين نهر الأردن وساحل البحر.

وعندما تمت لهم السيطرة على أرض فلسطين اعتنق جزء كبير من سكان المنطقة الديانة اليهودية إلى أن وصل الرومان في فتوحاتهم إلى هذه الأرض واحتلوها ولكنهم منحوا نوعا مما نسميه اليوم “الحكم الذاتي” للأهالي مع الاعتراف لهم بمزاولة شعائر دينهم.

ويظهر من تسلسل الأحداث أن اسم فلسطين لهذه المنطقة أقدم من اسم إسرائيل الذي ظهر عندما أسس النبي سليمان دولته التي انقسمت بعد وفاته بسبب خلاف ابنيه على الحكم إلى دولتين هما إسرائيل ويهوديا.

وحدث أثناء احتلال الرومان لهذه الأرض أن دعا الحاكم الروماني السكان للتوجه كل إلى مسقط رأسه لعمل إحصاء للسكان فتوجهت أسرة آل عمران ومنها فتاة شابة اسمها مريم إلى مدينة بيت لحم حيث حدثت المعجزة، “وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا” (19 سورة مريم16-19).

احتارت مريم الفتاة الفلسطينية الفقيرة التي تعيش في ظروف شاقة تحت الاحتلال الروماني وما زاد المشكلة تعقيدا أن الرومان وكلوا الحكم للطاغية هيرودس الذي أمر بقتل كل مولود ذكر، فما العمل يا مريم وقد بدأت البشارة تتحرك في جوفك، وهنا طمأنها الرحمن بقوله:”قَالَتِ الْمَلَائِكة يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ” (3 سورة آل عمران 42).

هنا تأكدت مريم أنها ستجد المخرج السليم من هذا الموقف المميت وتبعت نصيحة الوحي أن تأخذ وليدها إلى مصر حيث لا تمتد إليها سلطة الطاغية هيرودس. ولكن لماذا مصر بالذات وسلطة هيرودس تغطي فلسطين وحدها؟

فكان يمكنها الذهاب إلى العراق أو تركيا كما فعل الرسل من بعدها.. إن في هذا لتعزيز لقوله تعالى: “ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين” (12 يوسف 99).

أكدت هجرة مريم البتول ووليدها، أن مصر بلد الأمان والاستقرار التي يحرسها الله من كل مكروه فهي كنانة الله في أرضه وهي المحروسة من كل شر. وتحقق لمريم الأمان في أرض مصر وفي أحضان شعبها الكريم الذي ذكر في الكتاب المقدس: “مُبَارَكٌ شَعْبِي مِصْرُ” (19 أشعيا 25).

وبقيت ما شاءت البقاء إلى أن زال حكم الطاغية فرجعت إلى وطنها فلسطين ليكمل ابنها عيسى عليه السلام رسالته في الأرض، رسالة السلام والمحبة.

لذلك يحتفل شعب مصر بكل طوائفه مسلمين ومسيحيين أقباط وكاثوليك وإنجيليين بمولد عيسى عليه السلام، ولا نلتفت إلى الاختلافات في التوقيت سواء 25 ديسمبر أو 7 يناير لأنها اختلافات في تطبيق التقويم ولا تمس جوهر الموضوع وهو تكريم رسول الله الذي ولد منذ أكثر من ألفي عام وما زال تكريمه ممتدا إلى يومنا هذا في احتفال بهيج حيث تجتمع الأسر ويسعد الأطفال بالهدايا التي أعدها لهم والديهم ويشكر الأطفال والديهم بأغنيات ذات نغمة جميلة هادئة مثل:

يا حلاوة شمسنا – و يا خفة ضللنا

الجنة في أرضنا والحنة في رملنا..

ثم يلتف الجميع حول المائدة حيث اصطفت أنواع المأكولات المحببة كما اعتاد المصريون الاحتفال بالمناسبات السارة على مر أكثر من خمسة آلاف عام.

بقلم| الدكتور هانئ النقراشي

موضوعات متعلقة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *