الدكتور هانئ محمود النقراشي يكتب: بصمة الحضارة المصرية في العالم
نشأت الحضارة المصرية في زمن غابر يقدره بعض الخبراء أنه يرجع إلى أكثر من عشرة آلاف عام، فكان مبتكري هذه الحضارة أول من وجه باقي شعوب العالم إلى إعمال العقل والتفكير المنطقي لإيجاد الحلول المناسبة التي تتيح لهم التغلب على تحديات المعيشة.
ومن البديهي أن مع مرور الزمن تتحول هذه الحلول وكذلك الأدوات التي استنبطتها إلى شيء معتاد يلجأ إليه كل من يبحث عن حل لمشكلة قابلته في حياته اليومية دون أن يسأل نفسه: “من كان الرائد الذي هداني إلى هذا الحل؟”.
ومثال ذلك هو تقسيم زمن اليوم، وهو دوران الأرض حول نفسها دورة واحدة إلى اثني عشر ساعة للنهار ومثلها لليل فينقسم زمن دورة الأض إلى 24 ساعة.
ولسهولة هذا التقسيم تحول إلى ما نسميه اليوم “مواصفة قياسية” ونضيف إلى تصنيفها كلمة “عالمية” حيث أن كل سكان العالم بلا استثناء يعترفون بذلك وينظمون حياتهم على أن اليوم 24 ساعة.
ساعة أمينوفيس الثالث 1400 قبل الميلاد
كان هذا الإناء يُملأ بالماء إلى علامة في أعلاه ويترك الماء لينساب من ثقب في أسفل الإناء، وكان زمن الساعة يحتسب عندما يصل سطح الماء إلى العلامة التالية.
ويلاحظ أن الشكل المخروطي للإناء يعطي زمنا متساويا تقريبا بين كل علامتين، أي أنهم كانوا يحتسبون زمن الساعة على أنه عدد محدد من زمن ثابت مثل ضربات القلب، ولا نجزم أن عدد ضربات القلب كان هو المعيار، ولكن هذا الإناء يثبت أن زمن الساعة كان ثابتا وليس قابلا للتمدد والانكماش ليكون النهار 12 ساعة سواء صيفا أو شتاء.
تقسيم زمن اليوم لم يكن إلا جزءا من إنجازات أوائل سكان وادي النيل، وقد تسمح الظروف بذكر بعضها في مقالات لاحقة. وهنا نكتفي باختراعين كان لهما تأثيرا بعيد المدى على تطور الإنسانية جمعاء.
اختراع الكتابة
نشأ في مصر 3200 سنة قبل الميلاد في عصر ما قبل الأسرات حيث اكشف عالم المصريات الألماني جونتر دراير سنة 2002 في منطقة أبيدوس في جنوب مصر العديد من الدلايات الفخارية الصغيرة، بكل منها ثقب لتثبيتها في وعاء بداخله مواد غذائية وعليها رموز تدل على مصدر محتوى الوعاء.
والمقصود بالكتابة هنا هو التعريف الحديث المعترف به في الأوساط العلمية وهو استعمال رموز مقابلة لمحتوى صوتي وليس مجرد رسم الشيء المشار إليه كما فعل السومريون في 3100 ق.م. وثبت بذلك أن الكتابة ظهرت في مصر قبل ظهورها في أي مكان آخر في العالم.
وتطورت هذه الرموز إلى أن وصلت للأبجدية العربية وكذلك الأبجدية الالتينية وكلتاهما تستعملان في الغالبية العظمى مما يكتب في العالم.
العدالة أساس الحكم
وكذلك لا يجب أن نغفل التراث المعنوي، ومنه الحياة في مجتمع يحترم العدالة، والعدالة تُمثل في أغلب الدول على شكل سيدة تحمل في إحدى يديها ميزانا وفي الأخرى سيفا ولا يُخفي أن فكرة وزن أفعال الإنسان بهدف تقييمها موجودة ومثبتة في برديات قدماء المصريين كما تبين الصور المرفقة
هذا وعطاء المصريين مستمر إلى اليوم، فهم الذين أنشأوا أول دولة في التاريخ صمدت لكل متقلبات العصور إلى اليوم، فلم يفلح في تفكيكها الهكسوس ولا الفرس ولا الرومان ولا البريطانيون، فهي المثال الحي للاستدامة.
والاستدامة تعني التطلع للمستقبل وليس الإكتفاء بالفخر بالماضي، وهنا تتحول النظرة إلى متطلبات التقدم وأولها الطاقة النظيفة بعد أن عانى العالم والشعب المصري على مدار القرن الماضي من تزايد تلوث الهواء ونقص موارد الماء النظيف بسبب التهافت على إنتاج الطاقة بأي ثمن.
بالنظر إلى خارطة مصر نجد الوادي الأخضر يحف عليه من الجانبين مساحات شاسعة من الصحاري تسطع الشمس على أغلبها أكثر من 360 يوم في السنة بما يعادل طاقة مليون برميل من النفط لكل كيلو متر مربع، إذن فالطاقة الحرارية، التي يمكن تركيزها وتخزينها ثم تحويلها إلى كهرباء وهي عماد التنمية، موجودة على جانبي الوادي.
والتخزين الحراري المناسب يعطي ميزة الإمداد المستمر طول الليل، وعند التوسع في اتجاه ممر التنمية واتجاه السواحل يمكن لمساحة مصر استيعاب ضعف عدد سكانها الحاليين مع ضمان تزويدهم بالطاقة والماء من تحلية مياه البحر.
بقلم: د.م. هانئ محمود النقراشي
المستشار العلمي لرئيس الجمهورية